أين شبابنا الجامعي في المحرر من التأثير في المجتمع والسياسة
حسان قاسه
“نظّمنا عام 1962 اعتصامات لإنهاء السياسات العنصرية بجامعة شيكاغو واعتُقلْتُ عام 1963، لكننا كنا على حق …. أنتم على الجانب الصحيح من التاريخ، ابقوا مسالمين ومصممين” هكذا عبّر السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز عن دعمه التظاهرات الطلابية بالجامعات الأمريكية التي دخلت أسبوعها الثالث مطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على فلسطين.
على هامش هذه الاحتجاجات، نتساءل عن مفهوم الحراك الطلابي، كيف ينشأ، ما دوره وما أدواته، وإلى أي مدى يمكن أن يصل تأثيره؟
يعد الحراك الطلابي مظهراً أساسياً من مظاهر الحياة السياسية، إذ يلعب دوراً مهماً في إحداث التغيير المجتمعي؛ فالطلاب كما يُقال: يمثلون المجتمع طولياً، كونهم من كل الفئات، فيهم الغني والفقير، المدني والريفي، المؤدلج وغير المؤدلج…، وعلى هذا فالحراك الطلابي وسيلة فعالة للدفاع ليس فقط عن حقوق الطلبة، بل عن حقوق المجتمع كله، أي أنه صورة انعكاسية لرأي المجتمع ومطالبه، وأداة للتأثير على سياسات الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها، إضافة لدوره في تعزيز الوعي المجتمعي، وتشجيع ثقافة الحوار؛ ورغم تنوع الدوافع التي تقف خلف هذا النوع من الحراك تبقى التيارات، والجمعيات، والمنظمات السياسية عاملاً أساسياً في حشد جماهير الطلبة.
بالنظر إلى هذا، يمكن القول: من البديهي أن مجموعة من الأفراد مهما كانت طبيعتها، ستنظم نفسها حتما بشكل من الأشكال فيما لو اجتمعت لفترة زمنية معينة، لهدف ما؛ لكن عندما تضم جامعة ما في أروقتها طلاباً منتمين إلى تكتلات سياسية ربما يختصر هذا الأمر كثيراً من الوقت في تنظيم أي حراك يقوده أولئك الطلبة بسبب ما يحمله بعضهم من خبرات وتجارب؛ وكلما ارتفع مستوى الوعي لدى الطلبة اتسعت مساحة اهتمامهم لتتجاوز المحلي، والوطني إلى الإقليمي، والعالمي؛ وصاروا يتأثرون بأنماط جديدة من القضايا والأحداث تطور من أدائهم وتزيد من تأثيرهم؛ كما أن هذا الانتماء السياسي قد ينجح في إبقاء المجتمع الطلابي بعيداً عن الهوى والاندفاع المبالغ فيه والمزاج المتقلب؛ وإلى جانب ذلك، فمن المحتمل أن يوجِد الحراك تربة خصبة تنشأ فيها شخصيات سياسية كـ “باراك أوباما” وغيره من دبلوماسي الولايات المتحدة الذين كانوا فيما مضى طلاباً في جامعة كولومبيا رائدة الحراك الطلابي اليوم؛ ومع الوقت، تدرك الجامعة كيف وأين تشترك، وأي القضايا تدعم؛ فتملك رصيداً احترافياً من المواقف تجاه قضايا وأحداث سياسية واجتماعية كبرى، وتغدو بذلك أكثر عراقة.
نعود الآن إلى سؤالنا المحوري: أين شبابنا الجامعي من التأثير في المجتمع والسياسة؟!
لعل الإجابة تكون معقدة بعض الشيء إذا أردنا الخوض في سرد تاريخي عن الحراك الطلابي في سوريا؛ وحتى إن فعلنا فربما لا نجد أكثر من المعروف لدينا من مطالبات حثيثة بالاستقلال إبان الاحتلال الفرنسي، ومحاولة حماية المكتسبات الوطنية بعد نيل سوريا استقلالها، ودخول في سلسلة مصادمات مع العسكر طيلة فترة الانقلابات؛ تلتها فترة تصحر أيام الوحدة مع مصر انتهت بتحول الحراك الطلابي إلى مسخ يدور في فلك “حزب البعث قائد الدولة والمجتمع” أثناء حكم آل الأسد؛ لكن الفارق الجوهري في مسيرة النضال الطلابي لسوريا تشكّل عندما بدأت ثورة الحرية والكرامة؛ إذ كان للجامعات دور بارز في التظاهر السلمي استطاع الطلاب من خلاله أن يخلقوا ردتي فعل كانتا على النقيض: تفاؤل كبير في أوساط جماهير الثورة؛ وخوف شديد لدى نظام الأسد دفعه لممارسة القمع والاعتقال والتغييب القسري؛ ولما تزايدت تلك الضغوط يذكر أبناء الثورة الأوائل كيف برز أحد أرقى شعاراتها: “لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس” فسعى الشارعُ الثوري إلى تعليق العملية التعليمية، محاولاً بدء عصيان مدني مفتوح دفاعاً عن الإنسان وحريته وكرامته.
لاحقاً وبعد أن مضت أعوام على انتفاضة السوريين وانقضت فترة الحماس؛ كان من الطبيعي أن تدخل الثورة في مرحلة التنظيم لا سيما مع الاستقرار النسبي الذي حققته؛ فنشأت في المناطق المحررة جامعات جديدة وولد معها أمل جديد بواقع ومستقبل أفضل؛ لكن انعدام الحياة السياسية في سوريا؛ وغياب التكتلات السياسية الحقيقية في الواقع الحالي؛ أنعش الحالة البعثية من جديد فكراً وسلوكاً وثقافةً؛ فمن الملاحظ أن أصحاب القرار في الجامعات يصرون على التمسك بالنظام القائم ولا يبدون أي استعداد لقبول التغيير، ويتجلى ذلك في رفضهم مشاركة الأفكار أو الحوار مع الطلبة، ومحاولاتهم قمع أي صوت حر أو رأي مخالف؛ كما أن اعتياد بعض الجماعات الطلابية أساليب نظام الأسد في القمع والسيطرة، يعرقل تقدم الحركة الطلابية وتطورها؛ تضاف إلى ذلك ندرة النماذج الملهمة للطلبة التي لعبت دوراً في تقييد نشاطهم السياسي والاجتماعي.
وأخيرًا، إن عدم فاعلية المجتمع المدني، وتشابهه مع هياكل نظام البعث شكل -وما يزال- عائقاً أمام تنظيم الحراك الطلابي وتوجيهه نحو تحقيق أهدافه على نحو إيجابي ومثمر.
أمام مجموعة الأسباب تلك أصبح الطلبة بالنتيجة ينزلقون نحو الهاوية مع نشوء أساليب وأدوات جديدة لتدجينهم تتطور بمرور الأيام وتفقدهم دورهم وتأثيرهم!
إن وجود النموذج المشوه أخطر من عدم وجوده أصلاً؛ فأياً كانت سلبية أن يفقد الإنسان عضواً من أعضائه فإنها لا تقارن بوجود ذاك العضو والسرطان يفتك به ويتمدد على حساب سلامة وصحة الجسد كله؛ لذا فإن من الضرورة اليوم أن يوجد شارع ثوري قادر على تنظيم نفسه سياسياً ونقابياً؛ يدرك دوره والمهام الملقاة على عاتقه، يقدم حالة سليمة، وينبذ التجارب التي أصابتها العلل المشار إليها آنفاً؛ ولأننا نفتقر لأي تجربة ناضجة لا بد أن يعي الشباب أنه هو الحالة النخبوية الجديدة، فينتج في هذه المرحلة الذهبية من الحريات ما عجز عنه السابقون، وما سيعجز هو عنه إن لم يبادر الآن؛ فنحن على مفترق طرق: إما أن نحيا في واقع يرسخ القبضة الأمنية والقمعية مستقبلاً، أو أن ننظر حولنا فنفيد من التجارب المحيطة بنا إقليمية كانت أم دولية، محافظين على قيم مجتمعنا وأهداف ثورتنا؛ فنخلق بذلك بيئة مختلفة نرسخ من خلالها دعائم دولة الحرية والعدالة والكرامة والقانون.