ابتسم أيها الجنرال، واندم أيها الثائر

حسان قاسه

يعد الفن تجسيداً إبداعياً للعواطف والأحاسيس والمشاعر الإنسانية، وحتى للأفكار والمعتقدات؛ تتعدد أشكاله، فيكون بالموسيقا أحياناً، ويكون في أحيان أخرى فناً تشكيلياً يعتمد على الألوان والأشكال والرسومات؛ أو أدبياً يقدم الشعر، والرواية، والقصة؛ أو تمثيلياً من خلال الأعمال التلفزية، والسينمائية، والمسرح.

لطالما ترددت في آذاننا عبارة “الفنُ رسالة” عند تقييم أي عمل فني، سواء بالمديح والإعجاب أو بالذم والاستياء، إذ ترتبط الأعمال الفنية دوماً بتقديم رسائل للمتلقين تتفاوت تبعاً لطبيعة العمل والغاية منه؛ ولا شك أن لتلك الرسائل دوراً مهماً في تكريس بعض المفاهيم، أو تعديل بعض الأفكار، أو إلغاء بعض التصورات، أو فلنقل عموماً في تشكيل ثقافة المجتمع؛ وبناء على ذلك يدعم الناس بعض الأعمال ويرفضون بعضها الآخر، وينشأ بالتالي ما يعرف بالنقد الفني الذي يطال نواتج الإبداع الإنساني كلها.

تفرض طبيعة المنطقة العربية قيوداً على بعض الأعمال الفنية التي تحمل في ثناياها رسائل سياسية، فالنقد السياسي للسلطة أو النظام الحاكم لا بد أن يكون مدروساً، وموجهاً بعناية، تحكمه مجموعة “خطوط حمراء” تختلف تفاصيلها من بلد لآخر، لكنها تشترك كلها في الحيلولة من وصول النقد لرأس الهرم، أو رأس السلطة، أو بعبارة أوضح للملك أو الرئيس.

في شهر رمضان الفائت وربما لأول مرة في تاريخ الدراما السياسية العربية حاولت شركة ميتافورا القطرية للإنتاج الفني أن تكسر القاعدة وتتناول رأس السلطة بشكل مباشر في مسلسل من إنتاجها حمل عنوان “ابتسم أيها الجنرال” ومع أن العمل أكد باستمرار وعلى مدار حلقاته الثلاثين أن جميع شخصياته وأحداثه من وحي الخيال وأن أي تشابه بينها وبين الشخصيات الحقيقية هو من قبيل المصادفة؛ لم يتردد السوريون على الإطلاق في إسقاط تلك الشخصيات والأحداث على واقعهم السياسي؛ ما أثار بينهم جدلاً واسعاً نتيجة التداخل بين الأحداث والخلط بين الشخصيات، فالمسلسل يعرض -بشكل واضح- أحداثاً جرت في حقبة الأسد الأب وشقيقه، وأخرى حدثت في فترة الأسد الابن وأخيه، ويمزج كلَّ ذلك بأفكار من نسج خيال المؤلف لتكتمل الحبكة الدرامية.

رغم ما عمد إليه “ابتسم” من فضح ممارسات الديكتاتور شخصياً، وإظهار جانب مما يجري في أقبية المخابرات، وكيف تعقد الصفقات السرية والمشبوهة على مستوى الأفراد والدول، وتنفذ على نحو لا يكترث لحياة الناس ووجودهم، وسلامة واستقلال أوطانهم؛ رغم كل ذلك وغيره، لا يعنينا أن نتناول من العمل سوى ما يمكننا من تسليط الضوء على رسالتِه بعيداً عن أي تفاصيل أخرى تخص السيناريو، والأداء التمثيلي، والإخراج، والحقائق التي تناولها المسلسل، ومحاولات ربطها بالواقع.

يبدأ المسلسل بمشهد من القصر الرئاسي بحوار بين رئيس الدولة “فرات الأبتر”، ورئيس شعبة المخابرات العامة اللواء “حيدر خليل” حول كيفية تفادي فضيحة أخلاقية فجرها “وضاح فضل الله” المهندس والعميد المتقاعد أثناء حفل عشاء دعا إليه بعض مسؤولي الصف الأول في الدولة، ليكشف عن علاقات جمعته بنسائهم وبشقيقة الرئيس؛ ورغم محاولات خنق الفضيحة، ينجح وضاح في تسريب نسخة مسجلة من الحفل إلى قناة “الشروق” الإعلامية التي تعمل في “الدولة الغربية” المجاورة، ما يدفع “عاصي” شقيق الرئيس، وقائد الحرس الجمهوري، لاتخاذ قرار -دون مشاورة أخيه- يأمر فيه قواتِه المتمركزة في تلك الدولة بالتحرك لمهاجمة مبنى القناة، مسبباً بذلك عاصفة من الاحتجاجات الشعبية التي تشجع القناة -ولا سيما بعد اغتيال مالكها- على بث المزيد من الاعترافات الخطيرة التي أدلى بها “وضاح” حول فترة عمله في البحوث العلمية التي استمرت لمدة عشرين عاماً كان خلالها مخططاً ومشرفاً على كافة الملفات الحساسة التي نفذتها الدولة، وأقذرها ملف الناصرية الذي تم فيه إجراء اختبارات لأسلحة كيميائية على مرحلتين: الأولى تمت في عهد الأب بالتعاون مع فرنسا، وأجري الاختبار على معتقلين جهاديين، وآخرين محكومين بالإعدام؛ والثانية تمت في عهد الابن بالتعاون مع الولايات المتحدة، وأجري فيها الاختبار على معتقلين ومعتقلات من كافة الفئات العمرية، بينهم أطفال تم انتقاؤهم من المياتم.

تؤدي الاعترافات الجديدة إلى خلط كبير للأوراق على نحو غير متوقع، وينتج عنها تشنج في الموقف الدولي يصل إلى حد المقاطعة الدبلوماسية للدولة التي تبدأ بالتفكك والانقسام بعد أن بلغ التوتر والتصعيد بين الأشقاء أعلى مستوياته؛ ورغم أن الكفة -بداية- تميل لصالح “عاصي” الذي يحظى بتأييد فرنسي-غربي، ويطمع في إنهاء حكم أخيه؛ لكنه يبوء بالفشل عندما يقرر الرئيس عقد صفقة سرية يقدم خلالها تنازلات كبيرة لصالح إسرائيل مقابل قلب كافة الموازين لصالحه، وكسب الصراع مع شقيقه “عاصي”، وطي الملفات التي نشرها “وضاح” وإنهاءِ كلِّ ما يتعلق بها.

عند هذا الحد، يتضح أن من أهم الرسائل التي يود القائمون على المسلسل إقناع المشاهدين بها هي أن إسرائيل تحمي ديكتاتوريات المنطقة العربية، وتضمن لهم بقاءهم في السلطة، وهي قادرة – متى شاءت – على تغيير الموقف الدولي لصالحها، وصالح من يحالفها؛ وعلى الشعوب العربية أن تفهم واقعها جيداً، وتدرك قبل أن تسعى للتغيير أنها لا تملك المقومات الكافية، ولن يمر وقت طويل حتى تكون وحدها الضحية التي ستدفع الضريبة الكبرى؛ لكن الأخطر من ذلك أن العمل أظهر النظام الديكتاتوري قوياً متماسكاً يحكم قبضته على كل شيء، لا تفوته شاردة ولا واردة، يملك الحلول لكل المشكلات مهما بلغت في تعقيدها؛ قادراً على خلط الأوراق بعبقرية منقطعة النظير، يملك من الأدوات والوسائل والأوراق ما يمكِّنه من صرف الأنظار عنه بسهولة، وإغراق خصومه في تفاصيل فرعية هامشية تجعلهم يشعرون باليأس، والاستسلام، والخيبة، والندم، والإحباط، والتراجع، وفقدان الأمل في تحقيق أي تقدم أو نجاح؛ وقد بدا ذلك جلياً في مكالمة هاتفية أمر فيها مدير قناة الشروق أحد موظفيه إغلاق ملف “وضاح” نهائياً وتجنب الحديث عنه مؤكداً “كلُّ ما فعلناه كان بلا قيمة، وأوهامنا بأن نصنع فارقاً كانت مجرد سخافة وانتحار”.

قد نختلف حول هذه النتائج، لكننا ما دمنا مقصودين بهذا العمل الفني بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا بد لنا كسوريين تعني لهم ثورتهم، ويهتمون لها، ويؤمنون بأن الحق سيزهِق الباطل ولو بعد حين، لا بد أن نتفق على أن المرحلة الراهنة لا تحتمل أن تكون “قفلة” المسلسل كتلك التي جاءت على لسان اللواء “حيدر” في حديثه إلى الإعلامية “ماريا” صديقة “وضاح”؛ لا يمكن في سياق الخذلان الأممي والدولي، وسباق التطبيع العربي مع نظام الإجرام أن نقبل “قفلة” تعلي كعب البسطار العسكري على القدرات العقلية والذهنية لمن خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة؛ لا يمكن أن نقبل “قفلة” تظهرنا ضعافاً لا نملك من أمرنا شيئاً سوى الاعتراف لقتلتنا بأنهم هم وحدهم من يفكر، ويدير، ويبني دولة قوية؛ لا يمكن أن نقبل تلك “القفلة” التي تعلن الانتصار المطلق للشر، وتروج لهزيمتنا، وتحذرنا من تكرار “حركتنا السخيفة والمجنونة”، فمعركتنا مع جلادينا لم تنته حتى الآن، وثورتنا ما زالت مستمرة حتى تحقق أهدافها، وما بذلنا في سبيله الدماء، لا يمكن أن نندم عليه يوماً مهما كلفنا ذلك.