الأمم المتحدة وسلطات الأمر الواقع

أحمد عزيز – حسان قاسه

يتزايد عدد الدول التي يتعين على الأمم المتحدة أن تتعامل مع سلطات الأمر الواقع فيها، على نحو يثير أمام المنظمة الدولية عاصفة من التحديات على المستوى التنفيذي، وتعد تلك الزيادة نتيجة للتغيرات التي تطرأ على معادلة السيطرة في الدول التي تشهد حالة نزاع كأفغانستان وأوكرانيا، بالإضافة لتزايد انتشار الانقلابات، ولا سيما في أفريقيا.

إن عدم وجود سياسة واضحة للتعامل مع سلطات الأمر الواقع في الوقت الراهن، دفع الأمم المتحدة إلى وضع قواعد إرشادية منفصلة لكل حالة على حدة، ورغم أن عوامل نشوء تلك السلطات تختلف من حالة لأخرى؛ فإن السؤال الجوهري الذي يواجه الأمم المتحدة، هو كيفية الموازنة بين خطر إضفاء الشرعية على ما يعتبر أشكالاً غير شرعية للحكم، وبين الحاجة إلى مواصلة التعامل مع هذه السلطات لضمان إنجاز المهام الأساسية، بما يشمل حل النزاعات، وإيصال المساعدات الإنسانية، والتعاون الإنمائي، وحماية حقوق الإنسان.

يمكن أن يطلق مصطلح “سلطات الأمر الواقع” على الكيانات غير الحكومية، أو الجماعات المسلحة التي تخوض صراعاً مع دولة ذات سيادة، وتملك سيطرة فعلية على بعض أراضيها، ولديها هياكل شبيهة بما يكون قائماً في الدولة، تماماً كما هو حال الميليشيات والسلطات المدعومة من روسيا في مناطق شرق أوكرانيا؛ كما تعتبر الحالة التي يتم فيها الاستيلاء على السلطة بالقوة، أو بوسائل غير دستورية، وإقامة الحكم رغم عدم قيام الاعتراف الدولي، أو مع استمرار وجود حكومة منفصلة بحكم القانون، شكلاً من أشكال “سلطات الأمر الواقع”، كما جرى في المحاولة الانقلابية في ميانمار في شباط 2021م، وكذلك استيلاء طالبان على أفغانستان في آب 2021م الذي أدى إلى مواجهة مضطربة مع المجتمع الدولي.

يتضمن السيناريو الآخر الذي نتناوله هنا: التحديات على المستوى التنفيذي، والمعضلات التي تفرضها سلطات الأمر الواقع على الأمم المتحدة، وما إذا كانت هناك حاجة إلى إيجاد نهج واضح لكيفية تعامل المنظمة مع تلك السلطات.

المشاركة أو عدم المشاركة

يعد قبول عضوية دولة ما، أو الاعتراف بحكومتها على مستوى دولي، حكراً على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث تقبل الدولة، وتتمتع بالعضوية بقرار صادر عن الجمعية العامة بناءً على توصية مجلس الأمن، ما يعني أن المنظمة الدولية لا تملك أي سلطة لمنح الاعتراف للدول التي تعمل ضمنها؛ لكن التفاعل الذي يتم بين المنظمة من خلال أجهزتها ووكالاتها وبرامجها المختلفة، وبين سلطات الأمر الواقع، يمكن أن يضفي عليها شيئاً من الشرعية، وبالتالي فإنها تحتاج إلى التعامل مع مثل هذه الحالات بعناية وحذر، فعلى سبيل المثال، قد يكون من الأفضل تجنب الاجتماعات العامة مع ممثلي سلطات الأمر الواقع، أو إصدار رسائل رسمية لهم كالمذكرات الشفوية، وهي الشكل الرسمي لمراسلات الأمم المتحدة مع السلطات الوطنية، ففي أيلول 2022م، نشرت (638) منظمة من منظمات المجتمع المدني رسالة مفتوحة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تدين فيها التوقيع العلني على اتفاقيات مع المجلس العسكري لميانمار قام بها ممثلو العديد من وكالات الأمم المتحدة، وهذه حادثة هامة تسلط الضوء على ما يمكن أن يهدد سمعة المنظمة في حال التعامل مع سلطات الأمر الواقع.

لكن مقاطعة تلك السلطات، وعدم التعامل معها مطلقاً، يعد في المقابل أسلوباً غير عملي، قد يمنع الأمم المتحدة من القيام بعملها، ففي فلسطين، يشارك المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وعلى نحو منتظم الجماعة الفلسطينية المسلحة، في الجهود الرامية لمنع اندلاع صراع مع الجانب الإسرائيلي.

إن عملية صنع السلام ليست هي المهمة الوحيدة التي يتم من خلالها تفاعل المنظمة مع سلطات الأمر الواقع، فقد تعين على إدارة عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة -والتي تملك تفويضات لدعم التحولات الديمقراطية وبسط سلطة الدولة- القيام بعملية إعادة بناء لعلاقاتها مع سلطات الأمر الواقع في كل من مالي، والسودان، عقب الانقلابات التي حدثت في هذين البلدين في 2021م؛ واقتضت -وما زالت- حماية المدنيين وتعزيز احترام حقوق الإنسان، التعامل مع أكثر مرتكبي الانتهاكات فظاعة، وذلك لدعوتهم إلى احترام التزاماتهم أمام القانون الدولي، وبغير هذا التفاعل المستمر، لن تتمكن الأمم المتحدة من تقديم بواعث قلق موثقة بشأن حقوق الإنسان، ومن ثم السعي إلى المساءلة، رغم الإشكالات الحقيقية التي يثيرها وجود سلطات متنافسة في مثل هذه الحالات، تتنازع فيما بينها حق المحاسبة على الجرائم المرتكبة؛ وعندما يكون الواجب الأخلاقي مقدماً على تنصل المجتمع الدولي من بعض الأنظمة، فإن ذلك يفرض على الأمم المتحدة التعامل مع سلطات الأمر الواقع لضمان إيصال المساعدات الإنسانية، أو التفاوض على إمكانية إيصالها، فرغم الموقف الذي أبداه مجلس الأمن عقب استيلاء طالبان على أفغانستان، إلا أنه أدرج “استثناءً إنسانياً” في نظام العقوبات المفروض على الحركة لتجنيب البلاد كارثة إنسانية، وأصبحت هذه الممارسة تعمم اليوم في حالات أخرى، وفي السياق ذاته، يتطلب التعاون الإنمائي دعماً مباشراً للسلطات الوطنية، وحين يتعذر تحويل الموارد إلى سلطات الأمر الواقع، فإن ذلك يتطلب إعادة ترتيب للأوراق على نحو كبير، حيث بذل فريق الأمم المتحدة الخاص بميانمار ما بوسعه لوقف أي برنامج إنمائي مع الوزارات التنفيذية التي يقودها المجلس العسكري عقب الانقلاب في 2021م.

يتضح مما سبق، أن الركائز المختلفة لعمل الأمم المتحدة كالسلام، والأمن، والتنمية، وحقوق الإنسان تتأثر بشكل مختلف تبعاً لسلطات الأمر الواقع، إضافة إلى أن الكيانات المعنية قد تنظر إلى التفاعل معها بشكل مختلف، مما يجعل الاتفاق على نهج واضح أكثر صعوبة.

السياق الوطني مسألة مهمة

لا شك أن الظروف التي تتولى فيها سلطات الأمر الواقع السيطرة على الوظائف الحكومية لها تأثير كبير على علاقة الأمم المتحدة اللاحقة بها، وكذلك على رد فعل المجتمع الدولي؛ فالانقلابات بحكم تعريفها تعد غير دستورية، وإن نجحت ولم يتم تقويضها، فإنها تولد أنظمة غير شرعية، وهكذا كان الانقلاب في ميانمار، وكذلك فإن النزاع المسلح بطبيعته يمكن أن يؤدي إلى نشوء سلطات الأمر الواقع، كحركة طالبان في أفغانستان، وميليشيا الحوثي في اليمن، اللتين صنفتا كمنظمتين إرهابيتين، وهذا جانب أساسي في اعتبارهم سلطات أمر واقع، والأمر ذاته ينطبق على حركة حماس، رغم أنها لم تصل إلى السلطة عن طريق انقلاب أو نزاع مسلح، بل بفوزها في الانتخابات عام 2006م.

الاعتبارات السياسية

في حين أن هناك اعتبارات معيارية، مثل الشرعية، والديمقراطية، وسجل حقوق الإنسان، إلا أن مسألة تحديد السلطات التي تعتبر “سلطات أمر واقع” مسألة سياسية بامتياز؛ ويمكن لقرارات الأجهزة التابعة للأمم المتحدة، ولا سيما الجمعية العامة ومجلس الأمن، أن تكون مفيدة بخصوص ما إذا كان ينبغي على هيئات الأمم المتحدة الموجودة في بلد ما اعتبار النظام القائم هناك سلطة فعلية، فربما صنف مجلس الأمن سلطة الأمر الواقع كياناً إرهابياً، وأدان التغييرات غير الدستورية للحكومة، مع أن سجله في ذلك غير مكتمل وغير متسق، أو أن تكون الجمعية العامة قد أعربت -على نحو مماثل- عن مخاوفها تجاه بعض الحالات، رغم ما تبذله من جهود في سبيل الوصول إلى توافق في الآراء حول أفضل الآليات للاستجابة والتعامل مع الحالات المختلفة.

إن تمثيل دولة ما في الأمم المتحدة، له تداعياته على السلطة التي يجب التعامل معها على الأرض، ففي كانون الأول 2022م، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة توصية من لجنة وثائق التفويض التابعة للأمم المتحدة بتأجيل اتخاذ قرار بخصوص تمثيل أفغانستان وميانمار وليبيا، لكن ما حدث لاحقاً، أنه تم رفض أوراق اعتماد طالبان، والمجلس العسكري لميانمار، والسلطات في شرق ليبيا، ليبقى ممثلو الحكومات الوطنية في مقاعدهم وكأن شيئاً لم يكن.

تشكل علاقة الأمم المتحدة بالمنظمات الإقليمية بوابة رديفة، تمكن المنظمة الدولية من أن تشكل استجابتها للتغييرات غير الدستورية للحكومات بطريقة غير مباشرة، فقد لعبت منظمة الاتحاد الأفريقي دوراً إيجابياً عندما قامت بتعليق عضوية الدول التي تشهد انقلابات على مستوى القارة، لكن ذلك لا يعني اعتبار هذه الخطوة نهجاً واضحاً للتعامل مع سلطات الأمر الواقع، لا سيما وأن هنالك منظمات إقليمية تبدي استعداداً أقل لإدانة عمليات الاستيلاء العسكري في منطقتها بسبب توجهها القائم على عدم التدخل، كرابطة دول جنوب شرق آسيا.

نهج واضح

إن عدم وجود قواعد واضحة حول الحكومات التي ينبغي على الأمم المتحدة أن تعتبرها سلطات أمر واقع، يجعل المنظمة تواجه مجموعة مخاطر سياسية، وأخرى على المستوى التنفيذي، إضافة لما يتعلق بسمعتها، فمن ناحية، قد يضفي الارتباط الوثيق جداً شرعية على ممارسات لا يمكن الدفاع عنها لسلطات الأمر الواقع، ومن ناحية أخرى، هناك حد أدنى مطلوب من المشاركة لتضمن المنظمة القيام بمسؤولياتها، وبالمجمل فإن تحقيق التوازن بين هذا وذاك ليس بالمهمة السهلة.

ربما حان الوقت لإيجاد سياسة واضحة للأمم المتحدة، تكون أكثر انسجاماً للتعامل مع سلطات الأمر الواقع في جميع أنحاء العالم، ولكن السؤال، كيف يكون ذلك، وكيف سيبدو؟

ربما يضع الجواب عن هذا التساؤل تعريفاً واضحاً لسلطات الأمر الواقع، ويرسم السيناريوهات المختلفة التي قد تجد الأمم المتحدة نفسها منخرطة فيها، كما يمكن أن يوفر قواعد أساسية للتفاعل بين الطرفين مع وضع اعتبارات خاصة بكل ركن من أركان عمل الأمم المتحدة، كما يمكن أن يساعد في تحقيق قدر من الانسجام والتماسك فيما أصبح قضية شائكةً تواجه المنظمة العالمية.

مكتب الدراسات-لجنة الترجمة، بتصرف من مقال لـ ، معهد السلام الدولي بنيويورك، المرصد العالمي، 06 كانون الثاني 2023م.