السوريون ومفهوم الجلوس على طاولة واحدة

حسان قاسه

تفرض مشكلات الحياة بطبيعتها المعقدة، وآثارها التي تمتد فتشمل طيفاً واسعاً من الناس؛ أن يجلسَ الأفراد معاً، ليناقشوا مصالحهم وأولوياتِهم، ويبحثوا عن آلياتٍ للتعامل فيما بينهم؛ وعندما يزداد تعقيد القضايا فتصبحُ شأناً عاماً يَمَسُّ الجميع، يتأكد اللقاء على مستوى الأفراد والجماعات وحتى الدول، وينتج عن ذلك علاقاتٌ، إما أن يغلبَ عليها طابَعُ التفاهمِ، والتعاونِ؛ أو أن يسودَها التعارضُ، والخلاف، والصراع في أسوأ الأحوال؛ لكنَّ ما تؤكدُه الحتمية التاريخية هنا بأن الأطرافَ في لحظة ما يجلسون للتفاوض بحثاً عن مخرج؛ يوصلنا إلى نتيجة جوهرية بأن البشرَ لا ينقطعون عن الجلوس معاً سواء كانوا في سلم أو في حرب.

طبيعة مختلفة

يعد العمل في الشأن العام أمراً مختلفاً تماماً عما يجري في مضمار العلاقات الشخصية، فالأساس هنا والأصل أن تجالس من تكره، ومن تحب، ومن يخالفُك، ومن يوافقُك، ومن ربما لا ترضى أن تصافحَ يدُك يدَه من حيث أنت، لكنَّ منصبك، أو موقعك، أو مكانتك، قد يلزمونك برأي مغاير، فتجلس رغماً عنك، حتى مع عدوك!

لماذا نلتقي؟!

تتعدد الاحتمالات التي يمكن أن يلتقي حولها المهتمون بقضايا الشأن العام على نحو كبير،فيمكن أن يكون اللقاء تعبيراً عن الانسجام ووحدةِ الحال، والتوافق التام لتحقيق هدف ما، وقد يكون أحد الأطراف تابعاً للآخر الذي يلتقي به ليملي عليه بعض التوجيهات، وربما يحاول أحد الأطراف أن يفرضَ نفسه على الآخرين، أو أن يكسبَ مواقفَ معينةً تصب في صالحه، ومن الوارد أن تكون الجَلسة استعراضية بامتياز، يتنافس فيها الجميع في عرض إمكاناتِهم وقدراتِهم، وأن يُختمَ اللقاء بلا شيء، أو أن يتطورَ لتصعيد ينتهي بعنف متبادل، كما ويحتملُ أن يكون أحد الأطراف قادراً على التأثير في بعض الملفات، ويحاول أن يخلقَ مِساحة للتعاون مع الآخرين؛ لكنَّ ما يَهُمُّنا هنا، هو أن نبينَ -لمتابع يدفعُه الفضول- كيفيةَ التمييز بين الاحتمالات المتعددة لمعرفة تفاصيلِ ما تم في أحد اللقاءات.

ببساطة، يعد لقاء أحد الأطراف وسؤالُه عما جرى، أو الإعلانُ عن مخرجات الاجتماع بشكل رسمي، طرقاً مباشَرة للوصول إلى إجابة، بغض النظر عن أي إجراءاتٍ تلي ذلك، كالوقوف عند مضمون الكلام الذي تم التوصل إليه، ومحاولة قراءة ما بين سطوره بعمق.

طريقتنا الخاصة

لكن هناك طريقة ثالثة، نمتاز بها نحن السوريون، هي التحليل الذي لا يعتمد على أي شيء، والمدعومُ دوماً بحزمة مبررات مستهلكة تستهدف عواطف البسطاء ممن يلتفون حولنا من قبيل قولنا: وفاءً للتضحيات، منعاً من تنفيذ أجندة خارجية، استمراراً في النضال، كرمى للمعتقلين والشهداء…الخ؛ محاولين بذلك أن يقنع كل منا جمهوره الخاص، ويستمرَ في تنفيذ مشروعه، وتحقيق أهدافه.

ربما يفوتنا أن هذا الأسلوب ليست له أي قيمة، ولن ينفعنَا في شيء، وأننا بذلك نسيء للتحليل ذاتِه، الذي يعتبر في بعض الحالات أهمَ من السؤال المباشر، عندما نعتمد في تحليلاتنا على مؤشرات واضحةٍ، ومحددةٍ؛ كأن نلاحظ تناقضاً -على سبيل المثال- في تصريحات إحدى الجهات، أو مراوغةً وكذباً متكررين، أو سلوكاً لا يتطابق مع الأقوال المعلنة، فعندها يكون التحليل مهماً جداً، لكنه أيضاً حساس جداً؛ فنتائجه دوماً ما تكون غيرَ مضمونة، وغيرَ دقيقة لأنها مرهونةٌ بالمعطياتِ التي تتغير من شخص لآخر.

قناعات خطيرة

لعلنا نستطيع القول إجابةً عمَّا يدور في أذهاننا، لم نفعل ذلك؟! بأن ما يقفُ وراء هذه الطريقة، هو قناعة راسخة لدى بعضنا بأنهم أكبر من كل شيء، أو أنهم بوصلة توجه الجميع نحو الغاية الصحيحة، أو مركز توازن، لا حياة لنا ولا استمرار لثورتنا بدونهم، فيبدأ أحدهم بقياس الآخرين على قناعاته الشخصية، فالصواب ما يراه صواباً وحسب؛ ومن ثَم، يكون من الطبيعي أن نصل إلى هذه النتيجة، ما دام بعضنا يعتبرون أنفسهم أوصياء، يرون في الآخرين مجرد عاجزين، وفاشلين وغير مؤهلين، لرعاية شؤونهم ومصالحهم، وأنهم مخلِّصون لهم.

لا شك في أن هذا النمطَ من الإقصاء الممنهج، لا يدل على وجود خلاف فكري ما، أو سوء فهم، أو التباس يحتاج توضيحاً؛ إنما هو تعصب شخصي أو فئوي، يدفع كل طرف لمهاجمة الآخر وشيطنته، فإما أن تكون قديساً في صفي، أو إبليساً في صف الآخرين؛ لكنَّ الخطر الحقيقي لهذا الأسلوب يكمن في أنه يمتد فيشمل كل من ليست له معرفة بطبيعة العمل بالشأن العام، ويجعل منهم جمهوراً ساذجاً، لا لون له، منقسماً على نفسه، تائهاً بلا هوية، حين يتسلق الوصي على أكتافهم مستغلاً عواطفهم، وحاجاتهم، والأقبح من ذلك، ثقتهم به.

إذن نتفق جميعاً أن الناس في الحروب وهي أشد حالات المفاصلة، يجلسون معاً، ليفاوض كل طرف الآخر في سبيل الحفاظ على ثوابته ومبادئه ومسلماته التي يرهن روحه من أجلها، ولا يمكن أن يساوم عليها بأي حال، وأنهم عندما يتوصلون لنتيجة ما، لا يمكن أن ننظر للطرفين على نحوٍ يساوي بينهما، فنخلط بذلك بين الحق والباطل، والظالم والمظلوم، والصديق والعدو؛ ومع إدراكنا لخطورة الطريقة التي تعتمد على التحليل المجرد، لندرك ما يجري حولنا من خلالها، وعدم جدوى الطرق المباشرة لدى بعضنا أو أكثرنا، بقي أمامنا أن نتفقَ على بديل عملي ما، لئلا نكون جمهوراً ساذجاً، أو مجرد متابعين سطحيين.

ربما يكون الحل الوحيد أمام كل ما سبق أن نسعى لتنظيم أنفسنا على نحو أكثر فاعلية، من خلال إيجاد كيانات حقيقية لنا، وأن نعمد إلى تكثيف اللقاءات المعلنة بين الأطراف التي تعمل بالشأن العام، ولا سيما تلك التي تمسُّنا بقراراتها، بهدف التعاون بين جميع المكونات، فلا أحد فينا يحوز الثقة المطلقة للشارع الثوري، فنضمن بذلك تغليب الجانب الإيجابي على السلبي ضمن مؤسسات، وهيئات، وكيانات، ربما لم نكن نحن من أوجد بعضها، لكنها قائمة، ولم يعد من السهل تجاوزها، أمام المشاريع المقعدة التي تنافسها، والتي تفتقد لأدنى مقومات الاستمرار، فلا رؤية واضحة، ولا قابلية للتنفيذ؛ ولنؤكد دوماً أن مجرد اللقاء لا يعني مطلقاً التوافق والتشابه، ولا يعني -كما يدندن البعض- إضفاء الشرعية على الأجسام القائمة اليوم، لأن الشرعية قرار الكل، فإن رَفَض الشارع الثوري جهة ما، أو شخصاً بعينه، فلا بد للجزء أن يرفضه، لكن الجزء إن رفض فإنه لا يملك أن يشرعن أصلاً، لأن الجزء لا يطغى على الكل، إلا في حالة واحدة، إذا كان يرى نفسه وصياً على الجميع، والآخرون أدنى منه منزلة، ويدورون حوله.